05/09/1998 Texte

pays

<< RETOUR

تجارب التعاون الإقليمي اليوم أثبتت فعالية كبيرة

أبعاد الخيار السوري لرئيس لبنان الجديد

تبدو حَـملة الانتخابات الرئاسـية المتوقَع تنظيمها في لبنان ابتداء من 23 أيلول (سبتمبر) الجاري وكأنها معركة خيالـيّة تَدور تحت سطح الأرض. فمُرَشَّحوها - باستثناء واحد - كما الناخبون يجرون تحركاتهم في سرّية شبه مطلقة دون مخاطبة الشعب اللبناني، المَعنـيّ الأول والأخير بـبـرنامجهم، إن توفَّر. فالناخب الأوحد بدون منازع - سواء أعجَـبَنا ذلك أو أحزَنَنا - أي الرئيـس السـوري حافظ الأسـد شخصياً، تمنى على الرؤساء اللبنانيين الثلاثة في قمة اللاذقية المنعقدة في نيسـان (أبريل) الماضي أن يلتزموا هدنة بالنسـبة لهذا الاستحقاق. فكان له ما أراد. ذلك لان الطـبخة الرئاســية تنضج في مُخَيَّـلته وحده وإن اسـتأنـس شـكليّاً برأي بعض الدول الغَربية الفاعلة. واختياره - إن كان ثبت على مرشح - لم يتـسـرب بعد حتى لصاحب الحظ السـعيد.

اللاعبون في لبـنان والطامِحون، كباراً وصغاراً، يبذلون جهودهم لتزكية مرشحهم لدى المراجع السـورية. فأضحَت عنجر ودمشـق مـحَجَّة هؤلاء. الكـل يحاول تسويق هذا المرشح أو ذاك من أصدقائه أو شركائه. فالسـياسـة في لبنان، قبل أن تكون رسالة، أضحت في معظم الحالات باباً للكسب السهل والثراء السريع عبر المشاركة في الصفقات الكبرى. كلهم يحوم حول من يعتبرونه خير رسول إلى الباب العالي. لكن الرُسُلَ غير ضالعين في القرار النهائي الذي يبقى الرئيـس الأسـد سـيدّه المطلق بدون شـريك أو منازع.

وهكذا يتحول المسرح السياسي اللبناني إلى مسرح دمى متحركة بانتظار القرار الفصل وصدور كلمة السر. هذا المشهد المحزن في دولة كانت قد قطعت أشواطاً على طريق الديمقراطية يُذَكِّرُنا بآخر وَقَعَ قبل ثلاث سـنوات عندما أعلَنَت أغلبية نيابية ساحقة أنها تعارض تمديد ولاية الرئيـس الـهراوي. وإذا بها - مع بعض الاستثناءات المحدودة - تنكفئ أمام تصريح الرئيـس الأسـد الذي أعلن في « الأهرام » القاهريّة - وهل هي مصادفة وحسب بالنسبة لاختيار صحيفة تصدر في بلاد عبد الناصر ؟ - بما معناه أن اللبنانيين قرروا التمديد للهراوي.

إن إستراتيجية سوريا اليوم تقضي بعدم الكشف عن نواياها حتى اللحظة الأخيرة لكي تستفيد من عامل المفاجأة ولكي لا يتم تداخل على الخط، أَكان لبنانياً أم دولياً. ولكي يبقى التحكم الاحادي بهذه الانتخابات مضموناً وبدون منازع.

المرشحون الجدّيون يحاولون تسويق أنفسهم لدى الرأي العام للقفـز بطريقة غـير مباشرة على القرار السـوري ولوضعه امام أمر واقع. وباعتقادهم أن الرأي العام إذا توقَّع وصول رئيس قوي ونزيه سيكون متضايقاً جداً إذا اخـتير رئيـس صُـورّي خِلافاً للتمنيات والتوقعات. وهذا الترويج محدود الفعالية والتأثير بالنسبة لأصحاب القرار الذين لا يتأثرون بالضغوطات والعواطف ولا يأخذون في الاعتبار إلاّ مصلحة سوريا الاستراتيجية كما يرونها.

فهناك من ينسب لسوريا رغبة في اختيار رئيس للبنان ذي مصداقية، قوي، نزيه، يُصلح الإدارة والاقتصاد ويُريحها من التعاطي مع كل صاحب طموح داخل الطوائف والأحزاب اللبنانية. شرط أن يكون وفيّاً لدمشـق وألاّ يطعنها في الظـهر إذا توفرت للبنان أسباب القوة أو تبدلت المعطـيات الدولية. وهنا إشارة إلى تجربة سـوريا مع الرئيـس سـركيـس.

أما الآخرون فيعـتقدون - في ضوء تجربة سـوريا الطويلة في لبنان - أن دمشـق تسـعى إلى تعـيين ما يشـبه المحافظ برتبة رئيـس في لبنان يُـبقي لديها كل مفاتيح الحل والربط ولا يأتي بـمبادرة. فـتـبقى الأمور على حالـها وتضمن سـوريا سـيطرة كاملة على بلاد الأرز من خلال وجه لبناني. ويقول هؤلاء إن سـوريا لا تُحَبِذُ مرشحاً قـوياً، نزيهاً يَـنْــتَـمـي إلى منطقة جـبل لبنان أو الى عـائلة سـياسـية عريقة - وهي التي أزاحت العائلات السـياسـية واسـتبدلتها بطـبـقة جديدة من السـياسـيـين موالية لـها، وان لم تـنجح في ذلك داخل الطائـفة الدرزية - وهي لا تحبذ من يـتمـتع بأداةٍ جـاهِـزَةٍ تَسـمَحُ لـه يـوماً ما أن يَسْـتَـغْـنـي عن الجيش السـوري.

إن سـاعة الحسـم باتـت قريبة تـفصلـنا عنها أسابيع معدودة. عندها سَـنَعرفُ كيف تُـتَـرْجِـم سـوريا مفهوم « العلاقات الممـيـزة » المـنـصوص عليها في اتـفاقية الطائف: هل هي تَـبَعِـيَّـة مُطْـلَـقـة وحكم مباشـر « لِـمُحافَـظَـة » لبنان مع احترام صِيَغ شـكـلـية « لائِـقة لِـتَمرِيرِ الـقرار في مَجلس النواب، أم هي صيغة تعاون واحترام متبادلين وتكامل في ضوء مصلحة كل من الدولتين والشعبين؟

وفي اعتقادنا أن مصلحة سوريا الاستراتيجية تَـفرُضُ تعاوناً مُخلِصاً وصادقاً مع لبنان لا في الـتَـبَعِـية واسـتـنـزاف الثروات ولا في عقد الاتفاقات التي لا تراعي مصلحة لبنان، كـاقـتـسام مـياه العاصي. فماذا لو طلبت إسرائيل مثلاً، بعدَ حلولِ السلام، اتفاقاً مـماثِـلاً بشأن اللـيطاني؟ فمصلحة سـوريا، في قـناعَـتِـنا، هي في أن يتمكن لبنان من أن يستعيد بناء ذاته على كل الأصعدة. لان اسـتنزاف لبنان الضعيف وانهـياره سـينعكـسان حتماً انهياراً على ســوريا. ولأن ما لا يقل عن ملـيون عامل من مواطنـيها يكسـبون رزقـهم بفضل ديناميكية لبنان المُـتَـرَنِّحة.

إن تَجارب التعاون الإقليمي في عالم اليوم أثـبـتت فعالية في كل مرة توفرت النيات الحـسنة. فمصلحة سـوريا تكمن في عدم الاسـتـقواء على لبنان. إنها تكمن في جـيـرة مُخلِصة وتعاون صادق بعيداً عن القهر والاسـتـئـثار بِجارٍ مثقلٍ بالجِراح. والاسـتحْقاق الرئاسـي سـيكون شـاهداً ومؤشِـراً على مسـتقـبل الخيارات السـورية للـبنان.

أنطوان بصبوص

مدير مرصد الدول العربية

باريس

OBSERVATOIRE DES PAYS ARABES
twitter   |